بسم الله الرحمن الرحيم
قصة قصيرة ..
( ماذا أقول ..
ماذا أقول ؟؟)
اليومَ أيضاً عاد باكياً
..
ارتمى في حضني و بكى حتى
نام !
لم أعد أسأله
لم أعد أقوى على سؤاله
ينتبه من نومه فتمتلئ
عيناه بالدموع
و أعود أحتضنه
و يعود يبكي
و أصمت
حتى يتكلم هو ..
ـ ماما ماما سامح قال لي
يا غراب !
ماما سامح قال لي أني
أحجل كالغراب
ماما كل الفصل أصبحوا
يقولون لي : يا غراب !
ماما ماما قولي لي كيف
أرد عليهم ؟ ماما ماما ماذا أقول ؟
أمس و أول أمس و أول أول
جاء صارخاً منهاراً يرمي كل ما يجده أمامه أرضاً ، لم يُبقِ مرآةً واحدةً في
المنزل ؛ كسر كل المرايا ، كسر حتى أجزاءها المكسورة ، أخذ يصرخ أنه قبيح قبيح !
قال هكذا قال له زملاؤه في الفصل ! ثم أخذ يبكي و قد احتضنته حتى نام و صحا ربما
بعد ساعاتٍ غسلَتُه فيها دموعي حتى فتح عينيه فامتلأتا بالدموع و انهمرت على
ساعديّ الملتفتين حول جسده فأحرقتهما و قال :
ماما ماما قولي لي كيف
أرد عليهم ؟ ماما ماما ماذا أقول ؟
أعطيته صورته الجميلة و
قلت له أرهم الصورة و اصرخ في وجوههم أنك أنت أنت و أن هذه صورتك إن كانت بضعةُ
أيامٍ قد أنسَتْهُم أنك أنت أنت زميلهم الذي عرفوه و عاشروه و لعبوا معه و أحبوه ؛
و أن الحريق هو قضاءٌ و قدر و سمّع لهم كما تسمِّع لأستاذ الحديث قول الرسول صلى
الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم
وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " و قل لهم أن الجمال جمال
الروح لا جمال الوجه و قل لهم أن هذا امتحانٌ من الله و أن أشد الناس ابتلاءً
الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، قل لهم أنك راضٍ بقضاء الله و صابرٌ عليه فما
مشكلتهم هم ؟
اليوم مسحت دموعه و قلت له :
قل لسامح كيف تكون سامح ؟ أين السماحة يا سامح ؟
يا سامح حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فيهم الأعرج يا سامح ، يا
سامح لا
تُظهِر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك ، يا سامح هذا أنا كما أنا
فهل أنت لا زلت سامح ؟
....
بكى بعد ذلك اليوم كثيراً و احتضنته و بكيت
لبكائه أكثر ..
يوماً بعد يوم .. شهراً بعد شهر .. عاماً بعد عام
.. لا زالوا يعايرونه .. لا زالوا يضايقونه .. لا زال يرتمي في حضني و يبكي ثم
يغفو ثم يصحو فينظر لعينيّ الذابلة و يسألني :
ماما ماما قولي لي كيف
أرد عليهم ؟ ماما ماما ماذا أقول ؟
لكنْ اليوم .. اليوم كبر
!
كبر حتى أنه لم يخبرني
كيف استقبله زملاؤه في الجامعة !
كبر حتى أنه لم يرتمِ في
حضني و لم يبكِ !
كبر حتى إني قد لمحتُ
توهان العاشقين في عينيه !
لكنّ نضجه لم يدُم حتى
ألمحَ لمن يحبها !
جاء ذاهلاً مستبدلاً
السرير بحضني ! ثم ما لبث أن حطّم كل ما حطّم يوم عاد أول مرةٍ بعد الحادثة من
مدرسته !
ثم صرخ :
قلتُ لها : أحبك !
قالت لي : "هيَّ
الشياطين بتحب ؟؟"
ماما ماما قولي لي كيف
أرد عليها ؟ ماما ماما ماذا أقول ؟
قلتُ ، قل لها : الشيطان
هو من قال : أنا خيرٌ منه !
...
اليوم دخل تكاد مشيته
تعتدل و يكاد وجهه ينتصر على تجاعيد الحريق اللعين !
صاح و هو يدور بي كطفلين
تحت المطر :
ماما ماما قالت لي :
تعالَ غداً و اطلب يدي في المدرّج ، أريد أن أفاجئ الدفعة كلها بردّي !
زالت ابتسامتي و انقبض
قلبي ! لكني أعدتها قهراً على شفتي و لم أجرؤ أن أسلبه فرحته بعد أن أوشكت أن
تحييه من موت !
...
يا إلهي ! ماذا ؟ ماذا ؟
أنتِ أم فلان ؟
نعم نعم ! ماذا ؟ ماذا ؟
نريدك في القسم !
ماذا فعل ؟ ماذا فعل ؟
ركضت خلفه صباحاً لأمنعه
من الخروج ، لكني لم أقدر عليه ! دخلت البيت الآن فقط بعد أن دُرتُ عليه الشوارع و
الطرقات حين لم أجده في كليّته !
ركضت خلفه و صرختُ به :
لا تفعل شيئاً خاطئاً .. لا تؤذِ أحداً .. لا تؤذِ أحداً !
هل ضرَبَ أحدهم ؟ يا ربي
لا ؛ لا يمكن أن يكون قد قتل ! لا .. لا .. ابني لا يفعلها لا لا !
ركضتُ خلفه و قد دخل
كالموج الهادر يصرخ و يصرخ و يحطم و يدمر !!
ركضتُ خلفه و هو يدور
البيت يحرك يديه في الهواء كمن يحارب جِنّاً و يكلم نفسه يحكي بأعلى صوته بكل
تعابير وجهه العصيّةِ على التعبير :
وقفَتْ في وسط المدرج
الممتلئ عن آخره و أشارتْ إلي و قالت : يريد أن يخطبني !
صاح من في المدرج كلهم
أجمعون :
أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم !!
نظرت إليّ ثم إليهم
وصاحت :
و إذا حضرت الشياطين ؟
أجابوها :
انصرفت الملائكة !
فانصرفَتْ و انصرف
المدرج بأكمله خلفها !!
أنا شيطان يا أمي ؟؟
جاهدتُ أن أغلق فمي
المفتوح من هول ما سمعت لأنطق ، لكن النطق خرج مني عويلاً !!
صرخ ثانيةً و هو يضرب
صدره بيده مفرقة الأصابع و يسند جسده لئلا يقع أرضاً بالأخرى :
أنـــــــــــا
الشــــــــــــــــــيـــــــــــــــطــــــــــــــان يا أمي !
أنا الشيطان !!
صرختُ فيه بكل قوتي و
أنا أحاول ضمه لصدري :
لااا لااا هم الشياطين هم الشياطين !
قل لهم ..
قاطعني هارباً من ساعديّ
المفرودتين لتحتويه :
ما عاد وقت القول يا أمي
.. أصبح وقت العمل .. عملٌ واحدٌ فقط .. عملٌ وحيدٌ مثلي .. عملٌ واحد فقط .. فقط
.. فقط ..
ركضتُ خلفه لأمنعه .. ركضتُ خلفه و أنا أصرخُ به
: لا تفعل شيئاً خاطئاً .. لا تؤذِ أحداً .. لا تؤذِ أحداً !
تَبِعْتُ الضابط بقدمين
ترتجفان و قلبٍ منقبضٍ يكاد يقفز من محبَسِهِ ليفِرّ بابن عمره من بين هذه
الجُدُرِ الكئيبة و هو يصرخُ في أصحاب هذه النجوم أن ابني ليس جانياً بل همُ
الجناة .. أولئك حسَنُوا الوجوه قبيحوا الدخائل هم الجناة أولئك صحاح الأجساد مرضى
النفوس هم الجناة أولئك ناعموا الملمس حادوا الأنياب مسموموا الألسنة هم الجناة
..
قاطع عقلي صوت باب
الغرفةِ الواصلين أمامها كعزيف ماردٍ يتجلى من دخان مقبرة !
أنت أم فلان ؟
أشرتُ برأسي و عيناي
تكاد تغادران محجريهما و هي تتابع حركات شفتيه :
هذه بطاقته ! للأسف ألقى
بنفسه من على كوبري النيل ؛ حاول الناس إنقاذه و بالفعل أخرجوه حيّاً لكنه مات منذ
ساعة في المستشفى .. البقاء لله ؛ أخبرنا الأطباء أنه أفاق و نطق الشهادة ثم مات ،
صبّرك الله !
ميّتةٌ أنا منذ لفظ
الضابط ما لفظ ..
بيديّ المرتعشة أزيحُ
الغطاء الأبيض عن وجه ملاكي مسجّىً أمام عينيّ أضمه لصدري ضمةَ صدفةٍ للؤلؤتها
الوحيدة قبل أن تسلبها أيدي الغطاسين الخشنة و أصرخ :
ابني ابني حبيبي ابني
أجبني يا ابني ! يا ابني يا حبيبي يا ابني قل لي قل لي : ........؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن قصة حقيقية وردت على
صفحة الكاتبة هند عبد الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق