بسم الله الرحمن الرحيم
من كتب الأدب ..
( مقدمة الأدب الكبير )
بسم الله
الرحمن الرحيم
قال عبد الله
بن المقفع:
إنا وجدنا
الناس قبلنا كانوا أعظم أجسامًا، وأوفر مع أجسامهم أحلامًا1، وأشد قوة، وأحسن
بقوتهم للأمور إتقانًا, وأطول أعمارًا, وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارًا.
فكان صاحب
الدين منهم أبلغ في أمر الدين علمًا وعملًا من صاحب الدين منا, وكان صاحب الدنيا
على مثل ذلك من البلاغة والفضل, ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل الذي قسم
لأنفسهم حتى أشركونا معهم في ما أدركوا من علم الأولى والآخرة, فكتبوا به الكتب
الباقية، وضربوا الأمثال الشافية، وكفونا به مؤونة2 التجارب والفطن.
وبلغ من
اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم, أو الكلمة من الصواب,
وهو في البلد غير المأهول, فيكتبه على الصخور؛ مبادرة للأجل3, وكراهية منه أن يسقط4
ذلك عمن بعده.
فكان صنيعهم
في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده5، الرحيم البرِّ بهم، الذي يجمع لهم الأموال,
والعقد6؛ إرادة ألا تكون عليهم مؤونة في الطلب، وخشية عجزهم، إن هم طلبوا.
فمنتهى علم
عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم.
وأحسن ما
يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم, فيكون كأنه إياهم يحاور7، ومنهم يستمع،
وآثارهم يتبع, غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتخل8من آرائهم, والمنتقى من
أحاديثهم.
ولم نجدهم
غادروا شيئًا يجد واصف بليغ في صفة له مقالًا لم يسبقوه إليه: لا في تعظيم لله، عز
وجل، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا, وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف
العلم, وتقسيم أقسامها, وتجزئة أجزائها, وتوضيح سبلها, وتبين مآخذها، ولا في وجه
من وجوه الأدب, وضروب9 الأخلاق.
فلم يبقَ في
جليل الأمر, ولا صغيره لقائل بعدهم مقال.
وقد بقيت
أشياء من لطائف الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم،
فمن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.
يا طالب
الأدب:
يا طالب
الأدب إن كنت نوع العلم تريد, فاعرف الأصول والفصول10, فإن كثيرًا من الناس يطلبون
الفصول مع إضاعة الأصول, فلا يكون دركهم11 دركًا, ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن
الفصول, وإن أصاب الفصل بعد إحراز الأصل, فهو أفضل.
فأصل الأمر
في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة, فالزم ذلك
لزوم من لا غنى له عنه,
طرفة عين،
ومن يعلم أنه إن حرمه هلك, ثم إن قدرت على أن تجاوز ذلك إلى التفقه12 في الدين
والعبادة, فهو أفضل, وأكمل.
وأصل الأمر
في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافًا13، ثم إن قدرت
على أن تعلم جميع منافع الجسد, ومضاره, والانتفاع بذلك كله, فهو أفضل.
وأصل الأمر
في البأس والشجاعة ألا تحدث نفسك بالإدبار14، وأصحابك مقبلون على عدوهم, ثم إن
قدرت على أن تكون أول حامل وآخر منصرف، من غير تضييع للحذر15، فهو أفضل.
وأصل الأمر
في الجود ألا تضن بالحقوق على أهلها, ثم إن قدرات أن تزيد ذا الحق على حقه, وتطول16
على من لا حق له, فافعل, فهو أفضل.
وأصل الأمر
في الكلام أن تسلم من السقط17 بالتحفظ, ثم إن قدرت على بارع الصواب, فهو أفضل.
وأصل الأمر
في المعيشة ألا تَنِيَ18 عن طلب الحلال، وأن
تحسن التقدير
لما تفيد19, وما تنفق, ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها, فإن أعظم الناس في الدنيا
خطرًا20 أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إليه من السوقة21؛ لأن السوقة قد تعيش
بغير مال، والملوك لا قوام22 لهم إلا بالمال, ثم إن قدرت على الرفق واللطف في
الطلب, والعلم بوجوه المطالب, فهو أفضل.
وأنا واعظك
في أشياء من الأخلاق اللطيفة, والأمور الغامضة التي لو حنكتك23 سن كنت خليقًا أن
تعلمها، وإن لم تخبر عنها.
ولكنني قد
أحببت أن أقدم إليك فيها قولًا؛ لتروض24 نفسك على محاسنها, قبل أن تجري على عادة
مساوئها, فإن الإنسان قد تبتدر إليه25في شبيته المساوئ، وقد يغلب عليه ما بدر إليه
منها للعادة. وإن لترك العادة مؤونة شديدة, ورياضة صعبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأحلام،
جمع حلم بالكسر: العقل.
2 المؤونة:
الثقل, والشدة.
3الأجل: غاية
الوقت في الموت والعمر, يريد أنهم يبادرون بتدوين ما يفتح لهم؛ مخالفة أن يوافيهم
الأجل.
4 يسقط:
يفوته, ويضيع عليه.
5 الولد: كل
ما ولده شيء, يطلق على الذكر والأنثى, والمفرد والمثنى والجمع.
6 العقد، جمع
عقدة: العقار الذي اعتقده صاحبه ملكًا.
7 يحاور:
يناقش.
8 المنتخل:
المختار.
9 الضروب:
الأنواع.
10 الأصول:
القوانين والقواعد التي يبنى عليها العلم, الفصول: الفروع.
11 الدرك:
اللحاق والوصول إلى الشيء.
12تفقه في
الدين: صار عالمًا به.
13 الباه:
النكاح، الخفاف: الخفيف.
14 الإدبار:
الفرار.
15 الحذر:
الاحتراز من الشيء.
16 تطول: من
طال على فلان: امتن عليه, وأنعم.
17 السقط:
الخطأ.
18 تني، من:
ونى الرجل في الأمر: فتر وضعف.
19تفيد:
تستفيد.
20 الخطر:
الشرف, وارتفاع القدر.
21 السوقة:
الرعية التي يسوسها الولاة.
22 قوام
الأمر: نظامه وعماده الذي يقوم به.
23 حنكتك:
راضتك, وهذبتك.
24 راضه:
ذلَّلَهُ, وجعله مطيعًا.
25 تبتدر
إليه: تسبق إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: الأدب
الصغير والأدب الكبير
المؤلف: عبد
الله بن المقفع (المتوفى: 142هـ)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق