الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

( وقت مستقطع )

قصة قصيرة


بسم الله الرحمن الرحيم

قصة قصيرة ..

( وقت مستقطع )

إنه انطوائي جداً ! كان كذلك طيلة عمره ؛ ربما لأنه أبكم! وجدت صعوبة طيلة حياتي في التواصل معه ، حتى قبل أن يفقد صوته ! اتهمني الجميع بأنني السبب في ذلك ! هل كنت السبب في شقاوته ؟ هل قلت له تسلق خزانة المطبخ و أمسك بزجاجة سائل تبييض الملابس الحارق و اشربها ؟!
كان دائماً منقطعاً عنا ، مُنجذباً بشدة للأفلام و البرامج الأمريكية ، يتابعها بشغف ، يقلِّدها بجسده و عقله ، بل و حتى روحه ! ربما كان ينظر لجمال بلادهم و بيوتهم ، ربما لم يعجبه حالنا ـ رغم أننا أفضل من سوانا ـ لم يكن ينفق مصروفه اليومي حتى لو مات جوعاً ! كان يجمعه و يجمعه حتى يتوفر له ثمن شيء يظهر في الأفلام الأمريكية : اشترى القبّعة و المسدسات و المهماز و الحذاء ذا الرقبة ، اشترى آلات موسيقى الجاز ، لم يعد يرتدي سوى "الفانلة البيضاء و السروال الجينز " ، يتابع مباريات البيسبول و الركبي و هوكي الجليد و كرة السلة !حتى لقد وضع سلة في فناء بيتنا ؛ أقام عموداً خصيصاً لها ! يظل يكلمني عن أبطالها ؛ يذكرهم اسماً ..اسماً ! يُفطر على الكورن فليكس و يشتري الهامبورجر و البيتزا كلما تيسّر ! لا تفارق البيبسي و الكوكاكولا يده ،يستمع للراب و يرقص الروك أند رول ، أكاد أُقسِم أنه لو نطق لما خرج من لسانه سوى الإنجليزية !
رأيت الفرح يملأ وجهه يوم دخل الأمريكان بلدنا !! أشار لي أننا قد انتهينا من عصر الديكتاتورية .. لو أطلقت نفسي حينها لخنقته بيديّ ، لو أخرجت ما بصدري صراخاً حينها لفقدت نطقي مثله ، لكن هذا ما حدث فعلاً : أردت أن أصرخ و أصرخ و أصرخ لكنّ صوتي لم يخرج ! ظللت مبهوتاً أمام ابتسامته أتهِم الحقيقة بأنها كابوسٌ سأُفيق منه ؛ لازلت أحيا على هذه الفكرة .. أرفض الواقع ؟ نعم أرفضه ! و سأظل أرفضه : لا لم يحتل الأمريكان بلدي .. لا لم يُقتل كل أولئك النساء و الشيوخ و الأطفال .. لا لا توجد سيارات مفخخة و لا عمليات انتحارية لا يموت فيها سوى أهل بلدي .. لا لم أفقد خالي و أبناءه جميعاً منذ عام في انفجار سيارة مفخخة و هم في السوق .. لا .. لا هذا لم يحدث !! لازلت أخرج و أدخل .. أشتري و أبيع .. أقابل أصحابي .. أحب و أخطب ! نعم سأخطب ! سأتجرأ و أفعل .. رأيتها حين قدِمَتْ مع والدها و والدتها ليخطبوا أختي الصغرى لجاسم .. جاسم أكبر مني ـ لكن من يجد عريساً لابنتِهِ هذه الأيام ؟ 
كل ما أحتاجه هو بعض الجرأة فقط لأكلِّمه ! أشار عليّ كاظم بأن آتي معه و أصحابه ـ المجانين مثله ـ إلى حفلة " الباربيكيو " التي سيقيمونها في الخلاء مع آلات موسيقى الجاز ؛ و أن أدعوه إليها ، أشار لي : هناك سيكون الجو مناسباً لمفاتحته في الخِطبة بعد تعميق صداقتنا .. لم تعجبني الفكرة أبداً !
ثم ما به كاظم ؟! أصبح أكثر انفتاحاً و سعادة ، أصبح لا يكف عن تحريك يديه بالكلمات و لا عن إرسال الابتسامات ! أصبحتُ أنا الأبكم ! بل صرتُ انطوائياً كذلك !!
دعاه هو لحضور حفلته مع أصحابه و أصبح ذهابي معهم فرصة إما أن أنتهزها أو أُضيِّعها ! بِتُّ أخاف من كاظم ، حتى لقد خشيتُ أن يخطِبها هو لنفسه ! هل سيوافق جاسم ؟ ـ من يجد لأخته عريساُ هذه الأيام حتى لو كان أبكم ؟ ـ 
حين خرجت مع كاظم في سيارة والدنا التي نجلب بها البضائع ؛ كنت أتلفت حولي ـ وهو يُدخِل آلته الموسيقية فيها ـ خِفتُ أن تلمحنا إحدى جاراتنا الثكالى ..
حين وصل الجميع و نصبنا خيمتنا ؛ نظر لها باشمئزاز ـ لو استطاع إقامة كوخ خشبي لفعل ـ !
ملأت رائحة الشواء المكان ، و أقاموا عموداً لكرة السلة ، بدءوا في العزف و الضجيج ، مرّت فوقنا طائرة أمريكية ، انقبض قلبي ، لكنهم لوحوا لها جميعاً ، غادرت الأفق ثم عادت مُنقضّة !! ما بهم ، هل اعتقدوا المشواة سلاحاً ؟ هل ظنوا أن الخيمة بها " أر بي جي " ؟ اندفعت نحو الخيمة لأُسقِطها ، فيما اندفع الباقون نحوها ذهولاً و خوفاً ، ماذا اعتقدوا ، هل ستحميهم خيمة ؟!
اشتعلت النار في جسدي الممزق في لمح البصر ، لم أَرَ مَنْ حولي ، فقط رأيتُ أخي كاظم يدمي و لازال يحتفظ بأنفاسه و بعض قوّتِه ، فيمَ لم يبقَ لي سوى عينين تجولان في كل أخطاء الماضي .. كاظم : ربما أكون السبب فعلاً في بُكمه ! كانت عيناي تستعِدّان لمتابعة روحي و هي تترك بقايا جسدي و قد تراءت لي صور أمي و أبي و أختي و أخت جاسم و قد فقدوا من كان يجب عليهم حمايتهم ، و حين تابعتْ عيناي روحي إلى السماء كان آخر ما رأته كاظم و قد استجمع قواه و ركض ناحية الطائرة التي أرسلت هديتها الثانية إليه ؛ كان يرفع يديه نحوها ؛ يبسُطُ
يده اليسرى مقلوبةً كسقف و ينزل بها على أطراف أصابع يده اليمنى المنتصبة عدة مرات وهو يصرخ : آ .. آآآآ .. آآآآآآآآآآآآآآآ !!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا إله إلا الله

لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله أخي الوحيد في ذمة الله أسألكم بالله قراءة الفاتحة و إهداء ثوابها له و الدعاء له بالرحمة و المغفرة ...