بسم الله الرحمن الرحيم
قصة قصيرة ..
( المؤشر)
صمَتَ تماماً ! لم يعد يكلمني إطلاقاً ! يتجنبني حتى في الطعام !
أصبح يمضي يومه برغيف خبز وقطعة جبن أو كوب حليب أو يفتح إحدى المعلبات التي يبيعها في دكانه الصغير ..
إنه يضغط عليّ حقاً !
لكني أذكى من هذا ـ ورثت الذكاء عنه ـ هذا الذكاء الذي لو أحسن استغلاله لما كانت حياتنا بهذه البساطة و هذا التقشف .. لكني لا أنوي إضاعة ذكائي مثله بكلمات عن الرضا و القناعة و السعادة !
ما يراه سعادةً أراه الشقاء بعينه !
يحاول إثنائي ؛ يخبرني كم ضحى و لم يتزوج بعد رحيل أمي ، أخبرني أنه لم يكن ليسمح لامرأةٍ أن تقسو عليَّ كما فعلت زوجة أبيه ..
هل طلبت منه هذه التضحية ؟
ربما لو تزوج لكانت حياتنا أسهل ؛ لكُنا وجدنا طعاماً مطهوّاً و منزلاً مرتباً و ملابس مغسولة و مكوية .. ربما كانت أنجبت له من يحقق أمله في إدارة دكانه و يتركني أنا لمستقبلي ..
مستقبلي الذي بات رميةَ حجرٍ مني .. أراه صافياً كالسماء الزرقاء في لون عينيها ، أشُمُّ رائحته في رائحة عطرها الأخّاذ تنفذ إليّ من صورتها الجميلة على بريدها الإليكتروني .. نعم أشمه حقيقةً لا وهماً !
يقول لي : و تترك ابنة عمك اليتيمة لمن ؟
هل حوّل الزواج إلى دار رعاية ؟! إنه يرعاها منذ كانت طفلة ؛ هل سيورِّثُها لي كالدكان ؟
نعم هي طيِّبة و جميلة و شعرها الأسود الفاحم طالما داعب أحلامي .. لكنها لا تمتلك تلك العيون الزرقاء و النظرة الهادرة كموج البحر ـ طالما حلمت بالتصييف و السباحة في البحر ـ تُرى هل خشيَ عليّ من موجه الهادر أم من ملابس مُرتاداته ، أم لضيق ذات اليد ؟ !
إنه المستقبل بين يديَّ : تأشيرة سفر لأمريكا و تذكرة طائرة لأصل لأجمل عيونٍ زرقاءَ أسبح فيها و في بحر المال ـ من كدِّي و عملي ـ لقد رباني على ذلك ، لن آخذ شيئاً منها سأرد لها كل ما أنفقـَتـْهُ ، سأكون الزوج الذي أخبرتني أنها حلمت به يوم قرأتْ " الآربيان نايتس " .. مرحى لشهرزاد لقد جعلتني " الشاطر حسن " الفارس العربي الفتيّ الذي تحلم به ذوات العيون الزرقاء ـ كم حلمتُ بالبحر و لونه ـ ليتها بعثت تذكرة باخرة .. إني أغرق في لون البحر " لون عينيها الجميلة " .. لولا شعرها الأحمر القاني كلون الدم ! أكرهُ هذا اللون ، إنه يذكرني بتلك الندبة في رأسي يوم سقطت على درج البيت و اصطبغ شعري بلون الدم ، عدا لون الكعكات الحمراء في شهادتي ـ لم أكن من التلاميذ البلهاء الذين " يصمُّون " المنهج و يفرغونه في ورقة الإجابة ـ نعم يا أبي : لن أمضي بقية عمري أبيع البقالة التي لا يزيد ثمن أغلاها عن عشرين جنيهاً !
إنه المستقبل .. إنها الحياة .. إنها أمريكا .. إنها الجنسية .. إنها سارا !
أنه أنا ابنك ! لمَ لا تُتِمّ جميلك و تبارك اختياري ؟؟
يقول لي : كيف ستربي أبناءك هناك ، كيف ستضمن دينهم و أخلاقهم ؟؟
صِحتُ : كما ربيتني ! نظر إليّ و إلى التذكرة في يدي ، كاد ينطق : و هل نفعت التربية ؟ رفعت صوتي أكثر : ستراني شخصاً آخر ؛ سأعود بمالي و مكانتي و أبنائي ..
نظر إليّ في شفقة ؛ قال : أتذكُرُ يا حسن : كنتُ أُديرُ مؤشر التلفاز حين يظهر مشهدٌ سيءٌ في فلمٍ ما .. هل ستستطيعُ إدارة المُؤشِّر يا حسن ؟؟
ربما أكون ذُهلت و صمتُّ .. ربما يكون صمتَ هو أيضاً ، لكنّ عقلي لم يكف عن الكلام و عيونُه لم تكفّ عن التأنيب ، و يدي لم تكف عن تلَمُّسِ جواز السفر و التذكرة ـ تحمل التأشيرة التي يموت في سبيلها من يموت في البحر اللجِيِّ بيننا و بينهم ـ و أنا أمسك بيدي بساط َ الريح أنتظر أن يُقلـّني إلى مغارة علي بابا لأقول لها : افتح يا سمسم .. افتحي يا سارا " لأكبش و أُعبي " و أبني القصر و أُسْكِنَ أبي فيه .. افتح يا مطار : لأنسى عيون أبي المُشيحةِ عني ساعةَ خرجت ..
إنها الثامنة و النصف : بقيت نصف ساعة لأضع قدمي على متن رحلة أرض الأحلام ..
إنها العاشرةُ و النصف حين كادت عينا والدي تقفزان فرحاً و دهشةً و قد وَقَفَتْ ببابه زوجة عمي و ابنتها و قد تقدَّمتُهما ممسكاً يد المأذون ، و في عينيَّ لون دهان غرفتنا النيليّ الصافي ، و أفكاراً كبيرةً لدكان والدي الصغير ، و لا زال صوته يرن في أُذُني :
هل ســتــستــطــيع إدارة الـمـؤشــر يـا حـســــن ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق